الخابطية والحدثية


الخابطية والحدثية:
الخابطية: أصحاب أحمد بن خابط، وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضا، وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع:
البدعة الأولى: إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة للنصارى على اعتقادهم أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 3 وهو الذي يأتي في ظلل من الغمام، وهو المعني بقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} 4 وهو المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن" وبقوله: "يضع الجبار قدمه في النار" وزعم أحمد بن خابط5 أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو والكلمة القديمة المتحدة كما قالت النصارى.
البدعة الثانية: القول بالتناسخ1 زعما أن الله تعالى أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم، وخلق فيهم معرفته والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا عاقلا ناظرا معتبرا، وابتدأهم بتكليف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك،وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة، وابتلاه بالبأساء والضراء، والشدة والرخاء، والآلام واللذات على صر مختلفة من صور الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم. فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن، وآلامه أقل. ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح، وآلامه أكثر. ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا كرة بعد كرة، وصورة بعد أخرى، مادات معه ذنوبه وطاعاته. وهذا عين القول بالتناسخ.
وكان في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس، وهو أيضا من تلامذة النظام، وقال أيضا مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ، وخلق البرية دفعة واحدة، إلا أنه قال: متى صارت التوبة إلى البهيمة ارتفعت التكاليف أيضا، وصارت التوبتان عالم الجزاء.
ومن مذاهبما أن الديار خمس:
داران للثواب، إحداهما فيها أكل وشرب وبعال، وجنات وأنهار.
والثانية دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال، بل ملاذ روحانية وروح وريحان، غير جسمانية.
والثالثة: دار العقاب المحض، وهي نار جهنم، ليس فيها ترتيب، بل هي على نمط التساوي.
والرابعة: دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا، وهي الجنة الأولى.
والخامسة: دار الابتداء، وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى.
وهذا التكوين والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان: مكيال الخير،ومكيال الشر، فغذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة، والمطيع خيرا خالصا، فينقل إلى الجنة، ولم يلبث طرفة عين، فإن مطل الغني ظلم، وفي الحديث: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصيه، والعاصي شريرا محضا، فينقل إلى النار ولم يلبث طرفة عين، وذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
البدعة الثالثة: حملهما كل ما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته" على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع، وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، وإياه عني النبي عليه الصلاة والسلام, بقوله: "أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال. وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، بك أعز، وبك أذل، وبك أعطي؛ وبك أمنع" فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه، فيرونه كمثل القمر ليلة البدر. فأما واهب العقل فلا يرى ألبتة، ولا يشبه إلى مبدع بمبدع.
وقال ابن خابط: إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 2 وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 3.
ولهما طريقة أخرى في التناسخ، وكأنهما مزجا كلام التناسخية، والفلاسفة، والمعتزلة بعضها ببعض.

(كتاب الملل و النحل للشهرستاني رحمه الله تعالى)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق